المحيط الحيوي للمعرفة - الدكتور طلال ناظم الزهيري

الجمعة، 29 أبريل 2016

المحيط الحيوي للمعرفة



الدكتور طلال ناظم الزهيري
استاذ المعلومات في الجامعة المستنصرية



المحيط الحيوي [Biosphere]، مصطلح وضعه بيير تيلار دي شاردان Pierre Teilhard de Chardin 1881-1955 . هو فيلسوف فرنسي تخصص بعلم حفريات ما قبل التاريخ. وحصل هذا المصطلح على اجماع عالمي للدلالة على الجزء المأهول بالحياة من الأرض، أو بمعنى ادق، الجزء الصالح للحياة، الذي يضم جميع الكائنات الحية والأوساط المناسبة لنموها. وهو يتمثل بطبقة رقيقة تغشي سطح هذا الكوكب، ترتفع ما بين 8-10 كيلومتر فوق سطح البحر، وتهبط بضعة أمتار في أعماق التربة حيث توجد الجذور والكائنات الحية الدقيقة، كما يتضمن كل السطوح المائية وأعماق المحيطات المختلفة الكثافة والأعماق. على هذا الاساس يمكن
للمحيط الحيوي ان يختلف في الحدود لاعتبارات الزمان والمكان. قد يكون المحيط الحيوي المدرك للانسان قديما، هو ذلك الجزء من الأرض الموجود بين اعلى قمة للشجرة التي يقتاد من ثمارها وعمق البركة التي يصطاد سمكها. اما بالنسبة لنا، قد يكون المحيط الحيوي يمثل اعمق نقطة في المحيطات الى ابعد نقطة في الفضاء الخارجي يستطيع الانسان ان يصل اليها. فاذا كان المحيط الحيوي، هو المساحة المادية للبحث والاستكشاف، فمن المنطقي ان تكون المعرفة البشرية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بهذا المحيط اذ قد تنمو وتتسع أو تضيق وتنحسر. ولإن الإنسان يشارك محيطه الحيوي مع عدد لا يحصى من الكائنات الحية الاخرى، لذا فأن هذه الكائنات من حيوانات وطيور ونباتات تصبح احد اهم مصادر المعرفة البشرية. وعليه نحاول هنا ان نناقش مراحل اكتساب المعرفة وفقا لاعتبارات المحيط الحيوي الذي يعيش فيه الانسان، إذ ذهب المؤرخ الفرنسي "الان تيستار"، في كتابه "قبل التاريخ"، الذي يبحث فيه تطور المجتمعات الإنسانية، منذ 40000 سنة، أي قبل تاريخ ظهور مفهوم الدولة الذي بدأ منذ 4000 سنة. اذ يقول "كان الجميع صيادون"، والمقصود بذلك هم البشر في الحقبة الأولى ما قبل التاريخ المعروفة باسم "حقبة القطف قطف الثمار- والصيد". واذ كنت اعتقد ان حقبة قطف الثمار هي مرحلة منفصلة عن مرحلة تحول الانسان الى الصيد. حتى وان كانت المدة الفاصلة بين الحقبتين قليلة نسبيا، مع هذا فأن طبيعة المعرفة البشرية في مرحلة القطف تختلف تماما عن تلك التي ارتبط ظهورها مع حقبة الصيد. وان كانت كلتا الحقبتين ترتبط بمفهوم الحاجات الفسيولوجية التي عبر عنها "ابراهام ماسلو" عالم النفس الامريكي (1908-1970). عندما قام بصياغة نظرية في علم النفس ركز فيها بشكل أساسي على الجوانب الدافعية للشخصية الإنسانية. حيث قدم ماسلو نظريته في الدافعية الإنسانية التي حاول فيها أن يصيغ نسقاً مترابطاً يفسر من خلاله طبيعة الدوافع أو الحاجات التي تحرك السلوك الإنساني وتشكّله. في هذه النظرية، يفترض ماسلو أن الحاجات أو الدوافع الإنسانية تنتظم في تدرج أو نظام متصاعد من حيث الأولوية أو شدة التأثير، فعندما تشبع الحاجات الأكثر أولوية أو الأعظم حاجة وإلحاحاً فإن الحاجات التالية في التدرج الهرمي تبرز وتطلب الإشباع هي الأخرى، وعندما تشبع نكون قد صعدنا درجة أعلى على سلم الدوافع، وهكذا حتى نصل إلى قمته. بالتالي يمكن ان نضيف الى مسالة التدرج الهرمي تلك، مسالة في غاية الاهمية وهي ان الانسان في طريقه لاشباع حاجاته الانسانية في اي مستوى من الهرم، كان بحاجة الى دائما الى المعرفة والمهارات التي تمكنه من تحقيق الاشباع التام، ولعل جزء مهم من هذه المعرفة المكتسبة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بمراحل اشباع الحاجات الانسانية (قبل- اثناء- بعد). لكن علينا ان نؤمن ايضاً أن القاعدة المعرفية عند المستوى الاول من الهرم، غالبا ما كان يتم ابتكارها او تعلمها من شركاء المحيط الحيوي. حتى قبل ان يتمكن الانسان من أكتشاف طريقة يعبر بها عن تلك المعرفة، او يتمكن من تسجيلها وحفظها لينقلها الى الاجيال اللاحقة. لهذا السبب قد نجد ان الكثير من التجارب التي افرزت مفاهيم معرفية كانت تعاد مراراً وتكراراً. على سبيل المثال في حقبة "القطف" واجه الانسان صعوبة في إدراك الطبيعة الموسمية للثمار، وعليه كان عليه أن يتحصل على قوته يوميا، وهذه مسالة شكلت خطراً على اشباع حاجاته الى الغذاء بوتيرة متوازنة.
ولا نعرف بالتحديد المدة الزمنية التي احتاجها الانسان في حقبة قطف الثمار حتى تعلم طريقة التخزين، ولعل حاجته الى الغذاء كانت الدافع الرئيس للسلوك الطفيلي، اذ بدل ان يعتمد على نفسه في التخزين الموسمي تطفل على الحيوانات التي سبقته الى استراتيجية التخزين لاعتبارات غريزية. مثل السناجب وممالك النحل والنمل..الخ. وعلينا ان ندرك، ان الغريزة هي هبة إلهية منحها الله لبعض مخلوقاته ليعوض عليها محدودية الادراك والقدرة على التعلم. بالتالي هناك طريقتين رئيسيتين للتخزين تعلمها الانسان من الحيوانات خلال مرحلة التطفل عليها. الاولى حفظ الطعام من موسم الوفرة الى موسم الندرة. وهي آلية تعتمد على المخزن الخارجي الذي يجب ان يوفر ظروف مناخية ملائمة للحفظ طويل الامد. إذ تعلم الانسان ما هي الثمار التي يمكن تخزينها دون ان تتلف، وما هي الظروف الملائمة لعملية التخزين. اما طريقة التخزين الثانية، فهي تلك التي تعتمد على مفهوم التسمين. بمعنى تناول الطعام بكثرة في موسم الوفرة لبناء طبقة (شحمية) تحت الجلد ليتم اعادة استهلاكها في موسم الندرة، لكن هذه الطريقة كانت بحاجة الى سلوك غريزي اخر، يصعب على الانسان ان يحققه وهو ما يعرف بالسبات الشتوي. وبحكم الذكاء الذي يتميز به الانسان عن غيره من المخلوقات الذي ساعده في ابتكار طريقة اخرى، وهي العمل على تنويع مصادر الغذاء، وصولاً الى اعتلاء قمة هرم السلسلة الغذائية.
اذ اعتمد الانسان على صيد الشريك في المحيط الحيوي والمنافس الاول له، والذي نقصد به الحيوان، بهدف القتل والتغذي على لحومها او اسرها للانتفاع من البانها، وبهذا حدث تحول مهم في مفاهيم الامن الغذائي للانسان من النباتي الى الحيواني. واذا ما ادركنا ان مرحلة القطف (جمع الثمار) لم تكن بحاجة الى مهارات معرفية مبتكرة او حتى ادوات مساعدة لتنفيذ عملية القطف والجمع. لنصل الى اسباب عدم وجود اثار انسانية توثق هذه المرحلة بأي ادلة ملموسة. بالتالي يمكن الاستنتاج، ان اشباع الحاجات الغذائية في مرحلة القطف، لم تكن تتطلب مهارات واساليب معقدة لتحقيق غاياتها بالقدر الذي يتوقف عند مرحلة تقليد الانسان للحيوان، او تقليد الابناء للاباء. اما مرحلة الصيد، فكانت تختلف جذريا، من حيث وجود متطلبات معرفية كثيرة على الانسان تعلمها قبل ان ينجح في التحول الى الرجل الصياد. ولعل ابرز ما كان يحتاجه في هذه المرحلة، هو ابتكار السلاح الذي يمكن ان يحقق للانسان التفوق على سائر الحيوانات، التي قد لا تكون بدرجة ذكائه، لكنها بلا شك كانت الاقوى والاسرع والاقدر على التخفي في محيطها الحيوي. ومما لاشك فيه، ان الصراع لم يكن لينتهي الى صالحه دون ابتكار الادوات التي يمكن ان يضمن من خلالها تقليص فارق السرعة والقوة. عند هذه المرحلة ظهرت الحاجة الى التوثيق وتسجيل التجارب لينتفع منها الابناء، لان الاخطاء في مرحلة المواجهة مع الحيوانات كانت قد تكون قاتلة على عكس مرحلة القطف التي قد تنتهي في اسوء حوادثها السقوط عن الشجرة. لذا يورخ معظم الباحثين التاريخ البشري من حقبة الرجل الصياد، مع الاقرار بوجود حقبة سابقة لها. وذلك لعدم وجود ادلة مادية والتي نقصد بها الادوات والاثار المادية التي يمكن من خلالها التعرف على تطور الانسان في تلك الحقبة، فضلا عن عدم وجود اي تسجيلات معرفية توثق المرحلة. اذن ما الذي خلفه الرجل الصياد حتى نؤرخ مراحل التطور البشري على الصعيد المادي والمعرفي من الحقبة التي عاش فيها.؟ هذا ما نحاول الوصول اليه، مع التاكيد على اننا نهتم بالجانب المعرفي اكثر من الجانب المادي لذا سوف نحاول ان نميز بين مراحل التطور للمجتمعات البشرية على اساس تاريخ التطور المعرفي  وليس على اساس التطور المادي الذي اتخذ من المادة اساس لتميز مراحل التطور البشري اذ وصف العصر الاول بالعصر الحجري لاعتبارات استخدام الحجر وهكذا بالنسبة لبقية العصور برونزي وحديدي ...الخ.         
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق