بدايات تراكم المعرفة - الدكتور طلال ناظم الزهيري

الجمعة، 16 سبتمبر 2016

بدايات تراكم المعرفة



الدكتور طلال ناظم الزهيري
استاذ علم المعلومات في الجامعة المستنصرية 


اذا كان المحيط الحيوي قد اثر في نوع المعرفة المكتسبة، فان طبيعة النشاط الاقتصادي والتركيبة الاجتماعية كانت العامل الاهم الذي اسهم في تطور المعرفة ونموها. واذا اردنا ان نتتبع المعرفة ومراحل تطورها سنجد أنها في مراحلها الاولى كان يمكن وصفها بـ (المعرفة المتبخرة) ، اي انها تلك المعرفة التي تنتهي و تضمحل بمجرد اندثار العامل الذي اسهم بظهورها.
ويمكن أن يكون هذا هو السبب الذي لم يشجع المجتمعات البشرية القديمة الى البحث في أهمية توثيقها، وقد يرى البعض ان مفهوم المعرفة المتبخرة هو أحد أطوار التراكم المعرفي الذي ارتبط  بالمرحلة الزمنية التي لم يكن الانسان قد توصل فيها الى طريقة لتوثيقها وحفظها. بالتالي يفضل بعض المؤرخين وصفها بـ (المعرفة الشفاهية). لاعتبارات التناقل الشفوي للمعرفة من الاجداد الى الاحفاد. لكن هذا النوع من المعرفة اقصد الشفاهية، لم تنطبق عليه صفة التبخر او الاندثار، اذ يكاد يجمع علماء التاريخ على ان الكثير من المعارف تم تناقلها شفاهةً، ليس فقط في المراحل المتقدمة من تاريخ الحضارات البشرية بل الى عصور متاخرة في حسابات البعد الزمني اذ كانت هي الوسيلة الرئيسة في تناقل المعرفة. فضلا عن الاقرار ان الكثير من المعارف التي تم تسجيلها وثوثيقها في المراحل اللاحقة كانت في الاصل معارف شفاهية.
        اذن الاصل في مفهوم التراكم المعرفي ارتبط اساس في القدرة على انتاجها وحفظها وتيسير سبل تناقلها. ولا شك ان نوع المعارف الانسانية في بدايتها كان ناتج عرضي غير مقصود، اي ان المعرفة في اطارها الضمني هي وسيلة لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات البشرية في مراحل تطورها التاريخي القديم. لناخذ على سبيل المثال العوامل التي ساعدت على تحول المنظومة الاقتصادية للمجتمعات البشرية من الصيد الى الرعي الى الزراعة. التي كان لكل منها ناتج معرفي خاص قد يتختلف او يتكامل مع ناتج المرحلة اللاحقة في اطار مفهوم التطور المجتمعي. ففي مرحلة الصيد كان الإنسان القديم يراقب الأنواع البرية من الوحوش والكواسر والجوارح بكثير من الخوف تارة والإعجاب تارة اخرى. وكما اشرنا سابقا الى ان مملكة الحيوان كانت المصدر المباشر للمعرفة البشرية، خاصة وان الصيد كان ضرورة لاغنى عنها، لا للحصول على الغذاء فحسب، بل وسيلة للحصول على ما يقي جسده برد الشتاء وحر الصيف،  وليصنع من بقايا الصيد أدواته وما هو بحاجة إليه. وتدل الشواهد الأثرية القديمة، ومظاهر العيش لدى الشعوب البدائية على أن الصيد والقنص كان محور اهتمام الإنسان القديم. وقد تنوعت وسائل الصيد لديه وطرائقه بتنوع البيئة التي عاش فيها، والطرائد التي كان يقنصها والمواد والتقنيات التي توافرت لديه. كانت أدواته بسيطة كالعصا والهراوة والحربة والرمح برأس حاد أو قاطع من الحجارة أو العظم أو المعدن. ومع تقدم الإنسان في مدارج الحضارة استخدم القوس والنشاب ثم السهام ومما يسترعي الانتباه أن الصيّاد البدائي كان بحاجة الى أن يتحلّى بالصبر وطول الأناة وخفة الحركة، فضلا عن اهمية اكتسابه مهارات التمويه والتخفي للتقرب من طريدته، وكان بحاجة الى ابتكار مختلف الادوات التي استخدمها لبناء الشراك والطعوم والفخاخ. ومن المحتمل أن يكون قد استعان بحيوانات استانسها لهذا الغرض مثل الكلاب والكواسر والطيور الجوارح لتتبع طرائده وقتلها. أن التحول من الصيد الى الرعي كان نتيجة طبيعية لما اكتسبه الانسان من معرفة بالحيوانات في محيطه الحيوي حتى تمكن لاحقا من اختيار اصناف محدده منها ليقوم بتدجينها والانتفاع منها. وتجدر الاشارة الى ان الانسان الراعي بقى محتفظا بمهارات الانسان الصياد الى مرحلة لاحقة من الزمن. ولعل البعض يقول الى ان الكثير من الاقوام مازالت تعتمد على الصيد حتى وقتنا الحاضر، وهو قول صحيح، لان التحول التاريخي لنمط العيش لم يكن القياس فيه يتم على اساس المجتمعات الصغيرة، التي أخذت تنظر الى اسلوب التعايش مع المحيط الحيوي على انه حرفة او مهنة، تفرضها عليهم البيئة المحيطة وطبيعة الحاجات الانسانية. نعم نقر ان اي مرحلة من مراحل التعايش مع المحيط الحيوي، بدأً من قطف الثمار وانتهاءً بالصناعة مروراً بالزراعة لم ينهي بعضها البعض. لكن الحديث هنا يركز على حرفة السواد الاعظم من البشر، والمحرك الاساس للاقتصاد للعالمي. اذ ان المجتمعات الصناعية لا تخلو بكل تاكيد من الزراعة او الصيد. وهنا لا نريد ان نتوقف عند هذه الجدلية الا بالقدر الذي يرتبط منه بالتراكم المعرفي. يبقى السؤال الاهم هو: كيف يمكن ان نقر بوجود تراكم معرفي في عصور لم يكن الانسان فيها قد توصل الى طريقة لتسجيل المعرفة.؟ الجواب ببساطة: من خلال الاقرار ايضا بأن التطور المجتمعي والتحول من نظام اقتصادي الى اخر هو دليل منطقي للاستدلال على وجود التراكم المعرفي. فالتطور كما اعتقده محكوم بمعادلة رياضية بسيطة. على سبيل المثال يمكن النظر الى التراكم المعرفي في حدود الاسرة بالقول إن: ( معرفة الأبناء= متراكم معرفة الاباء+ متراكم معرفتهم الشخصية). و(معرفة الاحفاد= متراكم معرفة الاجداد+ متراكم معرفة الاباء+ متراكم معرفتهم الشخصية). ثم تطور الامر الى وجود نوع من المشاركة في المعرفة في حدود التجمعات البشرية الصغيرة. ومما لاشك فيه ان التراكم المعرفي على نطاق التجمعات البشرية تنامى للدرجة التي قد تعجر معه الذاكرة البشرية من حفظه واستيعابه او حتى الاحتفاظ به لمدة طويلة من الزمن . بالتالي ظهرت الحاجة وجود ذاكرة خارجية والتي ادت الى ابتكار وسائل جديدة للتوثيق  تخرج عن مفهوم المشافهة الى مفهوم جديد اكثر ثباتا وهو التسجيل.
ولان الكهوف هي أقدم انواع المساكن التي استوطنها البشر،  لذا كانت جدرانها هي السجل الاول الذي عرفه الانسان والشاهد على اقدم الوثائق البشرية التي سجلت بعض الاحداث المهمة في حياة الانسان القديم. ومع هذه البدايات البسيطة لتسجيل الاحداث تمكن العلماء في عصرنا من تحليلها ودراستها لغرض لفك طلاسم واسرار التطور البشري والوصول الى فهم اعمق لطبيعات الحياة الانسانية في الازمان القديمة. وبغض النظر عن دوافع الانسان القديم للرسم على جداران الكهوف،  تبقى هذه الجداران السجل الاول الذي اسهم في تنامي  رغبة الانسان للبحث والتقصي عن وسائل اكثر تطورا لتسجيل الاحداث والوقائع التاريخية، معلنة عن نهاية حقبة المعرفة المشافهة وبداية حقبة تاريخية جديدة تعتمد على التراكم المعرفي المسجل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق