تعمية (تشفير) المعلومات ومقدمات اختراع الحاسوب - الدكتور طلال ناظم الزهيري

السبت، 4 نوفمبر 2017

تعمية (تشفير) المعلومات ومقدمات اختراع الحاسوب




الدكتور طلال ناظم الزهيري
استاذ المعلومات في الجامعة المستنصرية
قد يبدوا من الغريب القول، إن أعظمَ الانجازات والاختراعات التي أسهمت في تحقيقِ الرفاهية والرخاء للمجتمعات الانسانية، على مستوى الصناعة، والزراعة، والطب، والابتكارات التقنية الاخرى، كانت قد جاءت كنتيجة مباشرة او غير مباشرة للصراعات والحروب بين الامم والشعوب. والأغرب من ذلك إن جلَ تلك الاختراعات كانت تهدف الى تحقيقِ التفوقَ العسكري لهذا الطرف على ذاك. فكما هو معلوم اليوم، إن ضخامةَ عَديد الجيوش قديماً، كان له الكلمة الفصل في حسمِ المعارك بتشابه الاسلحة والمعدات المستخدمة في القتال لكلا الطرفين.
بالتالي فأن رغبةَ الشعوب في البقاءِ والاستمرارِ وامتلاك القدرة على رد جيوش الغزو عن ديارهم، كانت غالبا ما تدفع الحرفيون منهم الى إبتكار الأدوات والمعدات والوسائل التي يمكن من خلالها تَحيد عنصر العدة والعَديد للجيوش اثناء المواجهات العسكرية. فكان اختراع العجلة والعربات والسفن والمنجنيق وبناء الحصون وتطوير الاسلحة المستخدمة في المعارك كلها لتحقيق هذه الغاية. ومن الجديرِ في الذكرِ ايضاً ان القادةَ الميدانيون كانوا قد أدركو ان الحروب والمعارك لا يمكن ان تُكسبَ بالعديدِ وقوة التسليح فحسب، وانما في قدرةِ الاطراف المتحاربة على ادارة وتوجيه العمليات العسكرية بالطرق التي تحقق لهم التفوق في الميدان. ولعل من ابرز متطلبات الادارة الناجحة للمعارك هي في امتلاك أحد الاطراف الوسائل التي تساعده على تحصيل اكبر قدر من المعلومات عن الطرف الاخر، وامتلاك الافضلية في مرونة وسرعة تناقل المعلومات بين كتائب الجيش الواحد. وعليه فأن اهم ما كان يشغل القادة هو كيف يمكن الحصول على اكبر قدر من المعلومات عن جيش العدو وباسرع وقت ممكن، مقابل الحرص على حرمان العدو من الحصول على معلومات مماثلة. بالتالي ومن خلال مراجعة تاريحية بسيطة اكتشفنا ان فكرة جمع المعلومات (التجسس) عن جيوش العدو، غالبا ما كانت تتم من خلال توظيف العملاء ودسهم في صفوف العدو. وهؤلاء كانوا بحاجة الى وسيلة تمكنهم من ايصال المعلومات التي تم جمعها الى المعسكر المقابل. وعلينا ان نقر ان ادراك القادة العسكريون لخطورة هذا العمل وتاثيره المباشر على حسم الصراع كان السبب في تشريع القوانين التي تضمن انزال أشد انواع العقوبات لم يثبت تورطه في التجسس لصالح العدو، ولعل الكثير من هذه القوانين لا تزال سائدة في مختلف دول العالم حتى الآن. الا ان هذه العقوبات على قسوتها لم تنجح دائما في ان تكون رادعاً قوياً يمنع البعض من التطوع للقيام بعملية التجسس سواء كانت هذه المجازفة مدفوعة بشعور وطني، ام مكسب مادي. وتجدر الاشارة الى ان أخطر ما يمكن ان يتعرض له العميل هو اكتشاف الرسالة قبل وصولها الى المعسكر المقابل. وعليه حرص العملاء منذ القدم على ابتكار وسائل تمكنهم من ايصال وتهريب المعلومات والرسائل بصورة سرية وتقليل فرص كشفها الى ادنى حد ممكن من خلال عملية التعمية او ما يعرف الان بالتشفير.
ذكر (مراياتي، وآخرون، د.ت) ان المقصود بالتعمية cryptology واستخراج المُعَمَّىcryptanalysis، أو ما يعرف بالشيفرة *cipher  وكسر الشيفرة  decipherعلم يختص بالاتصالات السرية، ويعنى بمسألتين متعارضتين أولاهما: أمن التراسل بتحويل نص واضح plaintext إلى آخر معمّى cryptogram (غير واضح) بطريقة لا يعرفها إلا من هو مخول بفك التعمية decrypt وفهم النص، وذلك لمنع أي مُسْتَرِق (متطفل) eavesdropper  من الاطلاع على فحواه. وثانيتهما: اعتراض المراسلات واستخراج المعلومة المعماة من مُسْتَرِق لا يملك مفتاحها وتحويلها إلى نص مفهوم. هذا السجال بين المُعَمَّى والمُستخرج قائم منذ مهد الحضارة، وتنبع أهميته من كونه أفضل مصدر للمعلومات الاستخباراتية السرية. ويسعى المعنيون بهذا العلم إلى ابتداع أفضل طريقة للتعمية تستعصي على المسترق، في حين يعمل المسترق على إيجاد أفضل الوسائل لاعتراض الرسائل وحل تعميتها وفك رموزها المعقدة.
والتعمية عند العرب تعرف على انها اسلوب كتابي يعتمد على اخفاء المعنى من خلال تمويه (تعمية) النص حتى لا يتمكن من لا يمتلك مفتاح التمويه من ادراك فحوى الرسالة. وبشكل عام يمكن تمويه النص بعدة طرق كما ذكرها الكندي في كتابه (رسالة في استخراج الأعداد المضمرة)، وهي: التعمية بالقلب أو بتبديل مواضع الحروف من خلال تغيير مواقع حروف النص الواضح وفق ترتيب معين من دون أن يفقد الحرف فحواه. على سبيل المثال تسلسل هجائية الحروف باللغة العربية هي :
كلمة (قارب) على سبيل المثال سوف تكتب (ختبح). وسر قراءة النص سوف يكون المفتاح وهو العدد (3). وعرفت هذه الطريقة باسم شفرة قيصر [Caesar Cipher]  من عيوب هذه الطريقة:  سهولة كسرها لوجود عدد محدود من الاحتمالات على سبيل المثال باللغة العربية لا يزيد 56 احتمالية لأن الحرف لا يساوي نفسه وتوقع هذه الأحرف سهل جداً باستخدام الحلقات. فإذا أردنا كسر تشفير حرف ما فإننا نجرب جميع الحروف ما عدا الحرف نفسه و هذه من الطرق المعروفة لكسر التشفير و تسمى البحث الشامل Brute Force Search. و لتجاوز عيوب هذه الشفرة تم ابتكار طريقة جديد لتمويه او تعمية النص اطلق عليها شفرة الإستبدال [Substitution Cipher]. فيها يبدل بكل حرف من النص حرف أو رمز وفق قاعدة محددة من دون تغيير في موقعه. ويضيف (مراياتي، وآخرون، د.ت) الى ان التعمية تحولت الى علم يعتمد على مجالات علمية متعددة، أهمها الرياضيات مثل علم الأرقام وعلم الإحصاء والاحتمالات والجبر ونظرية التعقيد ومعالجة الإشارة وغيرها، وتليها العلوم اللسانية من الصوتيات والصرف والنحو والدلالة واللسانيات الحاسوبية، وكذلك علوم الإدارة والإلكترونيات والمعلوماتية وميكانيك الكم.  ولقد شاع في هذا المجال استخدام أساليب متنوعة للتعمية ابرزها كما تشير الموسوعة العربية*  التشفير و الترميز، والفارق الرئيسي بينهما هو طول المقطع المعتمد من النص الواضح عند تحويله إلى نص معمّى. فالتشفير يتناول كل حرف من حروف النص الواضح أو مجموعة حروف لا تزيد على ثلاثة، في حين تتناول منظومة الترميز كلمة أو عبارة أو جملة بكاملها وفق لائحة متفق عليها.    ولقد كانت الحرب العالمية الاولى التي اندلعت بين دول الحلفاء* ودول المحور* (1914-1918) قد اسهمت في تطور وسائل التشفير لاغراض التجسس و تناقل المعلومات بين القطعات العسكرية على مستوى المعدات والوسائل فضلا عن مستوى التدريب الذي يحضى به من يكلف بهذا العمل. وبشكل عام يمكن تقسيم انواع التشفير الذي ساد خلال الحرب العالمية الاولى الى نوعين: الاول يسمى شفرة الميدان: والتي يقصد بها مجموعة من العبارات والمصطلحات المتفق عليها مسبقاً والتي تحمل مدلول يختلف عن معناها الحقيقي ليتم تداولها في الاتصالات الميدانية بين الآمرين والقادة. على سبيل المثال رسالة تقول ((الذرة اصبحت ناضجة متى يتم القطاف)) والتي قد تعني (( كتيبة الصواريخ جاهزة متى يبدأ القصف)). هذا النوع من التشفير كان من السهل اكتشافه من خلال ربط الرسالة بالنتيجة اللاحقة وعليه كان من الصعب تكراره لاكثر من مرة، لذا غالبا ما كان يتم إستبدال العبارات وبشكل يومي تقريبا و الاتفاق على مصطلحات جديدة بين القادة، لكن هذه الطريقة كان من الصعب الاعتماد عليها بين قادة السرايا و قادة الكتائب والفرق والفيالق الذين قد تفصل بينهم مسافات شاسعة يصعب معها تحقيق هذا التواصل. لذا تم ابتكار التشفير الرياضي والذي يقصد به تشكيل الجمل والعبارات من الارقام الرياضية على سبيل المثال ( 1214-3453-5564) والتي قد تعني  (قصف مدفعي في الخامسة صباحاً). بالتالي كانت القطعات العسكرية غالبا ما تمتلك كتيبات خاصة فيها ترجمة الشفرة تسلم الى الاشخاص المكلفين في تنفيذ عملية الاتصال. الا ان وقوع احد هذه الكتيبات في يد العدو يعني اختراق الشفرة وبالتالي ضرورة إستبدالها. ومن الطريف في هذا الامر ان جيش الولايات المتحدة الامريكية كان يستخدم جنودا ًمن قبائل الهنود الحمر خاصة الشيروكي والشوكتا والذين كان يطلق عليهم أثناء الحرب العالمية الأولى متحدثي الشفرة بالإنجليزية: code talkers) ). مستغلة جهل دول المحور بلغات الهنود الحمر آن ذاك.
نستنتج مما تقدم ان فكرة تداول المعلومات وتناقلها تحت ظروف سرية كاملة لا تسمح للعدو باختراقها كانت الشغل الشاغل للقيادات العسكرية والسياسية اثناء اوقات الحرب والسلم على حد سواء. بالتالي فأن هناك جهود كبيرة كانت قد بذلت لتطوير وسائل ومعدات تسمح بتحقيق عمليات تشفير المعلومات على درجة عالية من الادقان، مقابل جهود متناظرة في الطرف الاخر لتطوير وسائل ومعدات تسمح بكسر هذه الشفرات. 
وتشير المعلومات التاريخية الى ان آرثر شيربيوس المهندس الكهربائي ألماني 1878-1929، اخترع في العقد الثاني من القرن العشرين آلة تعمية (للتشفير)، عرفت لاحقا باسمها التجاري آلة إينجماEnigma Machine. وهي عبارة عن توليفة أو تجميع لأنظمة كهربائية وميكانيكية، مثلها في ذلك مثل الآلات الدوّارة. تتألف الآلية الميكانيكية من لوحة مفاتيح، ومجموعة من الأقراص الدوّارة تسمى الدوّارات مركبة بشكل متقارب على طول محور، وآلية خطوية لتدير واحدة أو أكثر من الدوّارات مع كل ضربة على الأزرار، وتختلف هذه الآلية من آلة إلى أخرى، ولكن الشكل الأكثر شيوعًا هو أن يتحرك الدوّار باتجاه عقارب الساعة خطوة واحدة مع كل ضربة على الأزرار، ويتحرك الدوّار المجاور بين الفينة والأخرى. تعطي الحركة المتواصلة للدوّارات تحويلاً مختلفًا للتعمية بعد كل ضربة على الأزرار.  (Rijmenants، 2004)
 
لقد مكنت هذه الآلة بعد دخولها الخدمة في إستخبارات الجيش الالماني الى تحقيق أفضلية لجيوش المحور على جيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية في ما يخص الجانب الاستخباري، وما يميز هذه الآلة عن ما سبقها من وسائل التعمية المعروفة آن ذاك، هي بساطة استخدامها مقابل صعوبة كسر شفرتها، اذ ان آلية عملها تقوم على إستبدال يومي لمفتاح التشفير الذي يعتمد على وجود ثلاث أقراص دوارة زيد عددها لاحقا الى ثماني أقراص، والتي يتم من خلال إستبدال مواضع هذه الأقراص يوميا ليتم توليد شفرة تختلف عن اليوم الذي سبقها.  لقد صممت آلة إينجما لتكون موثوقة حتى لو عُرف توصيل الدوّارات من قبل العدو، اما اذا فشل العدو في كشف سر التوصيل ، فإن العدد الكلي للإعدادات المحتملة يتجاوز10 114 أي حوالي 380 بت، وبمعرفة التوصيل وشروط التشغيل الأخرى، يمكن تخفيضه إلى 1023  أي 76 بت. (Miller , 2004).
بريطانيا اهتمت كثيرا في معرفة سر شفرة «إينجما»، وعملت على اختراقها، لذلك دعت مجموعة  خبراء وعلماء في الرياضيّات والشفرات سُمّيت «Hut 8». ويشير  (COOPER, et al., 2013) الى ان آلان تورينج عالم الرياضيات البريطاني كان قد نشر في 1936 ورقة  بحثية عن نظام تشفير وتحليل قادر على القيام بعمليات مختلفة، واعتُبرت تلك الورقة لاحقا الاساس الذي مهدًا لظهور علم الحاسوب ورأى المسئولون عن «Hut 8» ضرورة وجود صاحب تلك الورقة بين فريقهم السري. وبعد أن تمكّنت الحكومة البريطانية من الحصول على بعض المعلومات عن إينجما تمكّن تورينج بعد عامين من العمل المتواصل من تطوير آلة يُمكنها فك الشفرة في رسائل الألمان التي تنتجها آلة اينجما.  ولضخامة هذا الاكتشاف سُمي حينها The Bomb القُنبلة، وكان لفك شفرة (إينجما) دور مُباشر في تعطيل تقدم القوات الألمانية وحلفائها، ما أسرع بإنهاء الحرب في 1945. بعد ذلك إستكمل تورينج العمل على جهازه القنبلة، إلى أن كشف عمّا يُعد نموذج أولى للحاسب الآلي، وهو الكمبيوتر التخزينيّ ACE – Automatic Computing Engine.
ما نحاول ان نتوصل اليها هنا ان محاولة البعض من العلماء للوصول الى مستوى تشفير غير قابل للكشف مسالة لا يمكن الاقرار بواقعيتها في ظل وجود علماء في الطرف الاخر يعملون على فك طلاسمها. من هذا المنطلق ظهرت فلسفة جديدة للحفاظ على سرية تناقل المعلومات قائمة من حيث المبدأ على توظيف تكنولوجيا الاتصالات في مجال اخفاء المعلومات في معلومات اخرى فضلا عن تشفيرها.  


* . الكلمة ماخوذة من كلمة صفر باللغة العربية والتي تدل على الاخفاء
* . مجموعة دول الحلفاء تتالف من الدّول التاليّة: المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى وإيرلندا، فرنسا والإمبراطورية الروسية.
* . مجموعة دول المحور تتالف من الدول التالية: الإمبراطورية الألمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية والدولة العثمانية ومملكة بلغاريا

هناك تعليق واحد: