امناء المكتبات العراقية والخيارات الصعبة - الدكتور طلال ناظم الزهيري

الأحد، 18 سبتمبر 2022

امناء المكتبات العراقية والخيارات الصعبة

 

التطور التاريخي لتعليم علوم المكتبات في العراق

عالية محمد باقر
يعود تاريخ تعليم علوم المكتبات في العراق إلى عام 1954، عندما بدأت منظمة اليونسكو بإرسال خبراء في مجال المكتبات إلى العراق لتنظيم دورات تدريبية وتأهيلية قصيرة المدى، للعاملين في حقل المكتبات. وكانت أولى هذه الدورات قد نظمت في كلية الآداب والعلوم التي أصبحت لاحقا تابعة الى جامعة بغداد من قبل خبير اليونسكو  البريطاني Cyril Saunders. في العام الدراسي 1957 - 1958، اقيمت ثلاث دورات تدريبية للعاملين في المكتبات المدرسية والعامة ومكتبات الكليات. 
 
تلقى المشاركون في تلك الدورات التدريبية الثلاث التي استغرق كل منها مدة شهر واحد محاضرات في اختيار الكتب، والعمليات الفنية من فهرسة وتصنيف، والتخطيط المكتبي، والأثاث والتجهيزات والتجليد، والخدمات المرجعية. وفي عام 1970 بادرت كلية الآداب في الجامعة المستنصرية بفتح فرع المكتبات، يمنح شهادة الدبلوم المتوسط ، يقبل فيه خريجو الدراسة الثانوية ومدة الدراسة فيه سنتان. وفي العام الأكاديمي 1979 - 1980 تطورت الدراسة في هذا الفرع ليصبح قسماً، حيث تقرر في حينه قبول الثلث المتفوق الأول من خريجي الدبلوم المتوسط في الصف الثالث لاستكمال مرحلة البكالوريوس. وفي عام 1983 توقف العمل نهائياً ببرنامج الدبلوم المتوسط في الجامعة المستنصرية ليتحول البرنامج كلياً إلى البكالوريوس، حيث يقبل الطلبة مباشرة من خريجي الدراسة الثانوية. و مدة الدراسة أربع سنوات، ويمنح الطالب شهادة البكالوريوس في علم المكتبات. وفي عام 1972 استحدثت جامعة بغداد " المعهد العالي لعلم المكتبات والتوثيق " حيث قبل ذلك المعهد المتقدمين إليه من حملة البكالوريوس ومن تخصصات علمية وإنسانية متعددة للدراسة مدة عام كامل. تضمن البرنامج الأكاديمي على (36) ساعة اسبوعياً . واشتملت المقررات الدراسية على ست مواد في كل فصل دراسي. فكانت مواد الفصل الأول كما يأتي: الفهرسة والتصنيف، والمراجع، واختيار الكتب، و الإدارة المكتبية، والكتب والمكتبات، والتوثيق. أما مواد الفصل الثاني فهي: الفهرسة والتصنيف والمراجع، والببلوغرافية، والادارة المكتبية، والكتب والمكتبة، والتوثيق. واستمر هذا المعهد حتى عام 1977، حيث تم نقله إلى قسم المكتبات في الجامعة المستنصرية ومارس مهامه هناك حتى عام 1982، حيث ألغي كلياً بقرار إلغاء برنامج الدبلوم العالي في جامعات العراق كافة. وفي نهاية عام 1977 تأسس معهد الوثائقيين العرب بقسميه الصباحي والمسائي، حيث تم قبول (120) طالبا عربيا وعراقيا واتخذ بغداد مقراً له، ويعد تأسيس هذا المعهد تتويجاً لجهود الفرع الإقليمي العربي للمجلس الدولي للوثائق، الذي طالب بضرورة تنظيم دراسات للوثائق على نطاق الوطن العربي، منذ مؤتمره التأسيسي، الذي انعقد في روما عام 1972. واستمر العمل في المعهد الى عام 1983 حتى صدور القرار (رقم 640 لسنة 1983)، والقاضي بإلغاء المعهد وتحويله الى قسم علمي يتبع معهد الإدارة في الرصافة التابع لهيئة المعاهد الفنية.

وفي عام 1980 تم استحداث قسم المكتبات في المعهد الفني الموصل (محافظة نينوى)، كما تم افتتاح قسم للمكتبات في معهد الإدارة التقني ببغداد في عام 1987.  وفي عام 1991 تم دمج قسم المكتبات في معهد الإدارة التقني بقسم الوثائق في المعهد الفني المنصور وباسم قسم إدارة المكتبات. الذي نقل لاحقا الى معهد الإدارة في الرصافة. وهذه المعاهد تقبل خريجي الدراسة الثانوية من الفروع العلمية والأدبية والتجارية ومدة الدراسة بالمعهد سنتان، ويمنح المتخرج شهادة الدبلوم في المكتبات. تؤهل الشهادة التي يمنحها المعهد المتخرج للعمل في دور الوثائق والأرشيف ومراكز المعلومات والتوثيق والمكتبات، وفي عام 1983 تم تأسيس قسم المكتبات والمعلومات في كلية الآداب في جامعة البصرة. ثم في عام 1995 أسس قسم المكتبات والمعلومات بكلية الآداب بجامعة الموصل وكلا القسمين في جامعة البصرة وفي جامعة الموصل يقبلان خريجي الدراسة الثانوية ومدة الدراسة فيهما أربع سنوات يمنح الخريج بعدها شهادة البكالوريوس في علم المكتبات والمعلومات. وكلا القسمين يدرسان المقررات نفسها التي تدرس في قسم المكتبات في الجامعة المستنصرية. حيث تعد هذه الأقسام الثلاثة من الأقسام المتناظرة في الجامعات العراقية . في عام 1986-1987 تم استحداث برنامج الماجستير في علم المكتبات والمعلومات في قسم المكتبات والمعلومات في كلية الآداب في الجامعة المستنصرية. مدة الدراسة سنتان يقبل في هذا البرنامج حملة شهادة البكالوريوس في علم المكتبات. في العام الأكاديمي 1992 - 1993 تم استحداث برنامج الدكتوراه في علم المكتبات والمعلومات في قسم المكتبات والمعلومات في كلية الآداب في الجامعة المستنصرية. يقبل فيه حملة الماجستير في التخصص، مدة الدراسة ثلاث سنوات تبدأ بالسنة التحضيرية بفصلين متبوعة بالامتحان الشامل ومن ثم يطلب من الطالب إعداد أطروحة الدكتوراه. وفي عام 2008 تم استحداث دراسة الماجستير في قسم المعلومات والمكتبات في جامعة البصرة. وهناك تجربة سابقة لها في قسم المعلومات والمكتبات بجامعة الموصل لكنها توقفت بعد تخرج دفعة واحدة بسبب شروط استيفاء القسم ومتطلبات استحداث دراسة الماجستير. واعيد العمل ببرنامج الماجستير في جامعة الموصل في العام الدراسي 2010.  

ابرز التحديات التي تواجه امناء المكتبات العراقية

يواجه أمناء المكتبات في العراق تحديات كبيرة اهمها الإختلاف الكبير بين نظرة المجتمع السلبية لمجال عملهم ، وما كانت تخبرهم به مناهجهم الدراسية عن عظمة الدور المنوط بأمين المكتبة. مع هذا لم تؤثر تلك النظرة عن رغبتهم المستمرة لتقديم افضل الخدمات لجمهور المستفيدين. الا ان ظروف الحروب المستمر التي خاضها العراق على مدى عقدين من الزمن القت بظلالها على مهنة المكتبات بعد ان تراجع الوعي الثقافي للمجتمع وعزوفه عن القراءة و الانشغال بمواجهة مصاعب الحياة.  اهملت المكتبات بشكل عام  و خرجت معظم المكتبات العامة عن الخدمة لاسباب مختلفة بعضها امنية واخرى بسبب الدمار الذي خلفه الغزو الامريكي للعراق وما نتج عنه من اعمال نهب وتخريب وحرق للكتب. واستطيع ان اوجز اهم التحديات التي تواجه أمناء المكتبات في العراق اليوم بالاتي:

1.      ضعف البنية التحتية للمكتبات التي شيدت معظمها في العقد السابع من القرن العشرين.

2.        ضعف الدعم المادي للمكتبات وقلة التخصيصات المالية الموجه لبناء المجموعات.

3.      عزوف المجتمع عن القراءة و توجه المجتمع الاكاديمي للمصادر الرقمية بسبب تقادم المصادر الورقية.

4.      تراجع الاقبال على مهنة امين المكتبة لضعف المردود المالي وندرة فرص العمل كون المكتبات في العراق ترتبط في القطاع الحكومي فقط.

قصص من داخل جدران المكتبة

مع كل هذه التحديات لعب امناء المكتبات العراقية دورا كبيرة في المحافظة على مكتباتهم من النهب و الحرق والاتلاف اثناء احداث عام 2003 . وهم بذلك قدموا للعالم صورة حقيقية عن الدور الحقيقي لامين المكتبة وارتباطه النفسي بمكان عمله. ولعل قصة أمينة المكتبة العراقية علياء محمد باقر [1] ذات الخمسين عام، التي أنقذت بمجهودها الشخصي حوالى ١٥ إلى٢٠ ألف كتاب من حادثة حرق مكتبة البصرة المركزية إبان اجتياح القوات البريطانية للمدينة. شاهدا تاريخيا وصل صداه الى كل بقاء الارض وكتبت عنها الصحف الغربية مقالات كثيرة تشيد بدورها لتقدم صورة رائعة عن امناء المكتبات في العراق. قصة علياء تحولت الى قصة مصورة بعنوان (امينة مكتبة البصرة: قصة حقيقية من العراق) للكاتبة Jennette Winter  . وفي مكان اخر تظافرت جهود مجموعة من امناء المكتبات في نقل الالاف من كتب المكتبة الوطنية و حفظها في منازلهم ثم اعادتها بعد استتباب الأمن. وفي ذات السياق اذكر انني كنت مديرا للمكتبة المركزية في الجامعة المستنصرية التي تعرضت الى الدمار الكامل بسبب اعمال التخريب الممنهج عام 2003 وكيف تمكنا خلال مدة وجيزة بعد ان تظافرت جهود العاملين في المكتبة من اعادتها الى الحياة في مدة قياسية مقارنة مع باقي مباني الجامعة. علما ان كل من ساهم في هذا العمل لم ينظر الى اي مقابل مادي او معنوي بالقدر الذي كنا ننظر فيه الى اهمية عودة المكتبة الى دورها الحقيقي لترفد الاقسام العلمية بما تبقى فيها من الكتب. و كيف استطعنا خلال مدة قصيرة ان نجمع اعداد كبيرة من الكتب على شكل تبرعات من المنظمات العالمية بعد مناشدات و مخطبات استغاثة. وقد تكون لهذه القصة نظير اخر في مكتبة اخرى .

تطلعات مستقبلية

اليوم و مع الاستقرار النسبي للاوضاع في العراق لانزال نعاني من اهمال اصحاب القرار للمكتبات بشكل عام و المكتبات العامة بشكل خاص والتي نعتقد ان دورها الثقافي والاجتماعي سيبقى حاضرا ومتميزا طالما توفرت لها الادوات و المستلزمات الضرورية للنهوض بها والارتقاء بدورها. بالتالي نعتقد ان دور امناء المكتبات في المرحلة القادمة يجب يركز على اعادة ثقة المجتمع بالمكتبة و جذبهم اليها من خلال الانشطة والفعاليات الثقافية التي يمكن تنفيذها داخل جدران المكتبة. وفي هذا السياق اشير الى اهمية التعاطي بايجابية مع البيئة الرقمية و الانترنت وان يتم استثمارها في تحسين واقع الخدمات المكتبية بدلا من النظر اليها على انها منافس يقوض مجهودات امناء المكتبة في جذب المستفيدين. ان التعاطي الايجابي مع الانترنت لتكون خدمة من خدمات المكتبات و التحول نحن قواعد البيانات الرقمية خاصة في المكتبات الاكاديمية قد يكون منهجا سليما يعيد ثقة الطلبة والباحثين في المكتبات.  ولعل امناء المكتبات يدركون اكثر من غيرهم اهمية التعامل مع التقنيات الحديثة وكيف يمكن توظيفها لتطوير خدمات المكتبات وتبسيط اجراءتها.

خطوات في الاتجاه الصحيح

على المستوى الاكاديمي ومن واقع المسؤولية العلمية ادركت الاقسام الدراسية المسؤولة عن تاهيل امناء المكتبات العراقية الى ضرورة مراجع المناهج والمقررات الدراسية في اقسام المعلومات و المكتبات و تعزيزها بكل ماهو جديد لنضيف مهارات جديدة لطلبة اقسام المعلومات والمكتبات في الجامعات العراقية تمكنهم مستقبلا من العمل على اجهزة الحاسوب والتطبيقات البرمجية واستثمارها في تحسين الخدمات. والتي يمكن استثمار هذه المهارات في تحقيق منافع للمكتبات وفعلا تم تغير الكثير من المناهج والمقررات الدراسية واستحداث اخرى جديدة تتوافق مع ما مطلوب من مهارات تقنية و فنية تنسجم مع طبيعة الخدمات و الاجراءات التي تنفذ في المكتبة والتي يمكن توقع الاتي منها:

استثمار امثل للموارد البشرية من خلال تحويل الكثير من الاعمال اليدوية للاجهزة الالكترونية مثل عملية الجرد. و المساهمة في رفع كفاءة الخدمات المقدمة وامكانية استحداث خدمات جديدة لم يكن بالامكان تقديمها يدويا مثل خدمة البث الانتقائي للمعلومات. كما يمكن ضمان سرعة ودقة اعلى في انجاز الاعمال الفنية والاجرائية. والتي يمكن من خلالها تحقيق سهولة بالدخول في برامج التعاون مع المكتبات الاخرى. فضلا عن تمكين العاملين فيها من اكتساب مهارات تقنية متنوعة يمكن ان تساعدهم في اكتساب ثقة ورضا المستفيدين من خدماتها.

مع هذا لا تزال الصورة سوداوية لمعظم طلبة اقسام المعلومات و المكتبات في الجامعات العراقية الذي ينتظرهم مستقبل غامض بسبب فقدان فرص العمل في مجال تخصصهم. ومع ان ندرة مجالات التوظيف تشمل باقي التخصصات العلمية والانسانية في الجامعات العراقية الا ان امناء المكتبات يعانون اكثر من غيرهم وذلك لان مجال العمل في قطاع المكتبات هو مجال توظيف حكومي فقط وليس هناك سوق عمل في القطاع الخاص يتناسب مع مهاراتهم المعرفية و التطبيقية. لذلك نظرنا في الاقسام العلمية للجامعات العراقية الى طرح فكرة تغير مسمى القسم العلمي من (المعلومات و المكتبات) الى قسم (المعلومات و تقنيات المعرفة) وهو تغير اضطراري لا نقصد منه التنكر للمكتبات بالقدرة الذي هو محاول لفتح اسواق عمل جديدة للخرجين بعد ان ضاقت فرصهم في العمل بالمكتبات. و فعلا حققنا هذا الهدف وتم تغير مسمى القسم فضلا عن تغير معظم مناهجه التي لم تخلو من المناهج و المقررات الدراسية التي تلائم متطلبات العمل في المكتبات. لكننا لا نزال نعول على الدعم الحكومي للمكتبات عموما من خلال توفير فرص عمل للمتخرجين الجدد و تقديم تفضيلات للمتخصصين منهم في الحصول على تلك الفرص فضلا عن اهمية دخول القطاع الخاص الى مجال عمل المكتبات ولعل في تجربة مركز جمعة الماجد في الامارات العربية و مكتبة عبد الحميد شومان في المملكة الاردنية الهاشمية مثال يحتذى به وقابل للتطبيق في العراق

 



[1] Jeanette Winter. 2005. Librarian of Basra: true story from iraq.


هناك تعليق واحد: