أمين مكتبة أم أخصائي معلومات . التحول من الارتباط المؤسسي الى الارتباط المعرفي - الدكتور طلال ناظم الزهيري

الثلاثاء، 19 مارس 2019

أمين مكتبة أم أخصائي معلومات . التحول من الارتباط المؤسسي الى الارتباط المعرفي


الدكتور طلال ناظم الزهيري
استاذ نظم استرجاع المعلومات

تنبأت بعض الدراسات بأن المستقبل القريب سوف يشهد اختفاء بعض المهن! نتيجة تداخل وتاثير التطبيقات التكنولوجية، و تراجع الاهتمام بمخرجات الاعمال والمهام التي يمارسها اصحاب تلك المهنة. ومن المستغرب إن مهنة أمين المكتبة، التي تعد واحدة من اقدم المهن المعرفية، كانت من بين تلك المهن المرشحة للانقراض خلال العقد الرابع من القرن الواحد والعشرين. والتي وصفتها التقارير (مهن بدون مستقبل).

وعلى الرغم ان هذه التقارير قد لا تكون قد استندت على مؤشرات دقيقية، او تعد نوع من انواع الابواق التحذيرية للمؤسسات التعليمية لتعديل مسارها وتطوير مناهجها، بالشكل التي يضمن استمرار دور مخرجاتها على الساحة العلمية والمعرفية. الا اننا نعتقد، ان من الحكمة، ان ينظر المتخصصين في مجال المعلومات و المكتبات الى هذا الامر بواقعية، ويتعاملوا مع هذه التقارير على انها تحذيرات مستندة على مؤشرات وقياسات لا يمكن تجاهلها حتى وإن لم نستطع الركون اليها. على الصعيد الشخصي اجد ان الخطابات العاطفية والانتماء القدسي الى المؤسسة، سوف لن يجدي نفعا في مواجهة المخاطر التي تشير اليها تلك التقارير. المكتبة بغض النظر عن نوعها هي مؤسسة ظهرت عندما احتاج البشر الى اليها، لتكون جامعة للنتاج الفكري الانساني المتراكم على مر العصور، ومهنة أمين المكتبة ظهرت، عندما شعرنا ان هذه المؤسسات بحاجة الى اشخاص يعملون على تنظيم المعرفة البشرية و تهيئة سبل الانتفاع منها. واهمية الدور ذاك، لن تكون رداء مقدس يحمي المكتبات والعاملين فيها اذا ما انتفت الحاجة الى وجودها او ظهر بديلا عنها.  
اذن الارتباط ما بين المؤسسة (المكتبة) والمهنة (أمين مكتبة) سيظل قائماً طالما كانت هناك حاجة مجتمعية لها. وببساطة شديدة ان مهنة أمين المكتبة ستبقى موجودة ما بقية المكتبة. لكنها بكل تاكيد سوف تختفي معها في حال انتفت الحاجة الى وجودها، وهو امر طبيعي ينطبق على الكثير من المهن. وفي مقاربة طريفة سالت المسؤول عن معرض السجاد في مدينة مشهد الايرانية التي تشتهر بنوعية فاخرة من السجاد. عن سر شهرة السجاد الايراني، قال امتهن الكثير من الايرانيين مهنة حياكة السجاد يدوياً وتوارثوها جيل بعد جيل. حتى ان مدن وقرى كاملة كانت تعرف بقرى النساجين. سالته هل مازل عددهم كما كانوا.؟ قال لا بالتاكيد لقد تناقص عددهم بشكل كبير جدا، وتحول الكثير منهم الى مهن أخرى. ما السبب سالته.؟. قال تطور مكائن صناعة السجاد التي حلت محل الحياكة اليدوية، قلت وهل مازالت الجودة فاخرة كما كانت. يدوياً.؟ هنا توقف قليلا وقال هل تعلم ان السجاد اليديوي اليوم اغلى ثمناً بكثير من الصناعي. والسبب. قلت؟  قال القيمة المضافة هي في الواقع نظير الجهد اليدوي وليس الجودة.
هذا الامر ذكرني بدور أمين المكتبة. ان وجود الحاسوب في المكتبة اسهم بشكل كبير في تنفيذ العديد من الوظائف والاعمال التي كان على امين المكتبة ان ينجزها يدوياً. بالتالي التقدير المجتمعي لامين المكتبة كان مرتبطاً بالمجهود وليس بجودة الخدمة، انت قد تشكر امين المكتبة عندما تراه يتفانى ويكرس لك الكثير من الوقت للحصول على مصدر او معلومات، حتى اذا لم يوفق في ذلك، والسبب هو شرف المحاولة. هذا الشعور لا ينطبق على جهاز الحاسوب عندما تبحث عن معلومة وتجدها بسرعة. لكن الحقيقة التي قد لا تكون حاضرة في ذهن المستفيد هو ان الجهد المعلن والمحسوس لامين المكتبة اختفى خلف شاشة الحاسوب. فكل ما كان يقوم به المكتبي في التعامل المباشر، أصبح ينفذ بطريقة غير مباشر. ببساطة شديدة ما يقدمه لك الحاسوب هو ايضا مجهود قام به ذات الشخص. لكن الغريب ان التقدير والثناء على المكتبي بدأ يتراجع وقد ينسب الفضل الى المبرمجون او الحاسوب ذاته.  ومع ظهور الانترنت تعقد المشهد وبشكل دراماتيكي بالنسبة للمكتبة وامينها. يوم بعد يوم معدل نمو المصادر الرقمية يزداد وبمعدلات أسية، يوم بعد يوم تتحول دور النشر العالمية من المجلات الورقية الى المجلات الرقمية، و مع التطور المستمر والتحسينات على تكنولوجيا الشبكات و الاجهزة اصبحت الانترنت هي ميدان التعامل المباشر للبحث عن المعلومات. وتجدر الاشارة، الى ان محاولات بعض دور النشر العالمية المسؤولة عن النشر الورقي في تحريض المؤسسات الاكاديمية على رفض الاعتراف الاكاديمي بالنص الرقمي، قد تراجعت كثيرا في الآوانة الاخيرة. حتى ان معدل الاستشهادات المرجعية الى المصادر الرقمية على الانترنت في اي مقال علمي، تجاوز نسبة  الثلثين مقارنة بالمصادر الورقية وفقا لبعض البحوث والدراسات الاكاديمية. وقد يحتج البعض على ان سوق الكتاب الورقي لازال مزدهراً، والدليل هو العدد الكبير من العناوين التي تصدر سنويا عن دور النشر العالمية. والكلام فيه جانب واحد من الحقيقية. وهي ان دور النشر العالمية، لم تعد تنشر المطبوع بعدد النسخ نفسه الذي كان سائدا. اليوم معظم دور النشر العالمية لا تنشر اكثر من 5000 نسخة للعنوان الواحد بعد ان كان يتجاوز 50000 قبل عقد من الزمان. اما على مستوى الدوريات فالعدد لا يتجاوز 1000 نسخة. والسبب ان دور النشر بدأت تعمل باتجاهين الاول النشر الورقي للحصول على الحقوق القانونية والثاني الرقمي للجدوى الاقتصادية.
اذن علينا ان نراجع الوقائع بكل حيادية. وجود المكتبة كما نعرفها اليوم. و اكد على عبارة كما نعرفها اليوم. مرتبطة بوجود الكتاب الورقي، وبنسبة اقل بالدوريات الورقية. و امين المكتبة دوره مرتبط بالمكتبة وبوجود مستفيد منها. بالتالي اذا اختفى الكتاب الورقي و الدوريات الورقية، او اذا ظهرت لها نسخ رقمية متاحة من خلال الانترنت. فأن المستفيد سوف يفضل بكل تاكيد الحصول على المعلومات الرقمية، خاصة وان ما كان يثار حول تفاعل البشر مع الورق وتفضيلهم القرأءة من الورق.  لم تعد تنطبق على الجيل الجديد الذي فتح عينه على النص الرقمي. مع هذه الحقيقية علينا ان نقر ان معدلات مستخدمي المكتبات سوف تنخفض وبشكل تدريجي وصولا الى عدد قليل لا مبرر معه استمرار المكتبة، في ظل انعدام الجدوى العلمية والاقتصادية منها. وكل يوم تطالعنا التقارير العالمية عن غلق مكتبات عامة في هذا البلد او ذاك. وهذا الامر لاجدال فيه. وبكل تاكيد ان كل مكتبة تغلق يعني هناك تسريح لعدد من امناء المكتبات. ومع كل مكتبة تغلق هناك فرص عمل تضيق على المتخصصين في مجال المعلومات و المكتبات. ومع كل مكتبة تغلق تقرب قرار الجامعات في غلق الاقسام العلمية المسؤولة عن تاهيل امناء المكتبات.
اذن ما العمل .؟ ان نعيد للمكتبات دورها القديم الذي كان سائدا في القرن العشرين، اعتقد هذا الامر مستحيل في ظل وجود غول تكنولوجي يحاصرنا بتطبيقاته و ميزاته الفريدة في التعامل مع المعلومات و مصادرها. فعلى المستوى العالمي حاولت الكثير من المكتبات الافادة من التكنولوجيا لتنفيذ المهام والوظائف والتي كانت في غالبيتها تصب في صالح العاملين وليس المستفيدين. ومها عملت المكتبات لا تستطع ان تنافس الانترنت. وقد يرى البعض أهمية التصدي للدفاع عن المكتبة وعن دورها ومحاولة اقناع المستفيدين باهميتها، برأي هذا امر لم يعد يجدي نفعاً. ان اكثر المتحمسين للمكتبات من المتخصصين في مجال المكتبات لم يقم بزيارة المكتبة اكثر من مرة واحدة في السنة. بل لعل البعض منهم لم يزرها منذ ان حصل على شهادة الدكتوراه. ولعل اغلب المتحمسين لوجود المكتبات اليوم هم اولئك الذين يدافعون عن انتفاعهم المادي من وجودها وليس لاهمية دورها!. بالتالي وفي ضوء هذه الحقائق انا اعتقد الاتي : التحول في مفهوم المهنة من الارتباط المؤسسي الى الارتباط المعرفي. اي بدل ان نقول امين مكتبة (ارتباط مؤسسي) نقول اخصائي معلومات (ارتباط معرفي) بالتالي نضمن استمرار الدور لان المعرفة البشرية مرتبطة بوجود البشر، و المعلومات نطاق عريض من المهن والاعمال الذي لا ترتبط بمكان محدد او مهنة بعينها. فرص اخصائي المعلومات ستكون موجودة اين ما توجد المعلومات واين ما تكون هناك حاجة اليها. فمما لاشك فيه ان المعلومات هي المحرك الاساسي للقطاعات كافة. لكن هل يمكن ان نعدل الدور بهذه البساطة.؟ اقول لا . نحن بحاجة الى اعادة النظر في التاهيل الاكاديمي لتخصصات المعلومات و المكتبات وفقاً لمتطلبات سوق العمل وحاجة المجتمع. وبالتاكيد نحن بحاجة الى تغير المسارات الاكاديمية لضمان مهارات تقنية ومعرفية تنسجم مع متطلبات سوق العمل.  ولعل التعاطي مع تكنولوجيا البيئة الرقمية هو الاهم بين المهارات المطلوبة لاخصائي المعلومات للقيام بالدور الجديد له. لا نقول وداعاً لمهنة امين مكتبة ولا نرتدي السواد على ضريحها بل نرحب بالفراشة التي تخرج من شرنقتها لتعلن عن مولود جديد اكثر فاعلية و قدرة على التعاطي مع متطلبات الفضاء الرقمي.





هناك 3 تعليقات:

  1. احسنت النشر لابد من الاستجابة للمتغيرات البيئة الخارجية والتطور السريع الهائل

    ردحذف
  2. مقالة قيمة ينبغي على كل القائمين في المكتبات مطالعتها

    ردحذف
  3. مقالة دات قيمة رائعة شكرا استاد

    ردحذف